سمير رشاد اليوسفي
ديسمبر.. وصية الدم وخارطة العودة
الثلاثاء 2 ديسمبر 2025 الساعة 19:34

ثماني سنواتٍ مضت. في تقويم الوقت تبدو مجرد أرقام، لكنها في ذاكرة الشعوب مسافةٌ ضوئيةٌ تفصل بين زمن الوهم وعصر الحقيقة. فمنذ الثاني من ديسمبر، ذلك اليوم الذي انقلبت فيه المعادلات، لم يعد اليمن كما كان، ولم يعد الصمت ممكناً.

 

أطل علي عبدالله صالح يومها بخطابٍ تجاوز المألوف السياسي. رجلٌ خَبِر تضاريس اليمن: قبيلةً، ودولةً، وتاريخاً؛ فقرأ لحظة الحقيقة بلا رتوش، ومزّق الأقنعة الزائفة. وحين وصف “السنوات العجاف”، كان يستعير لغة القرآن ليصف بلداً حاول الكهنوت جرّه إلى ما قبل الدولة، وما قبل الإنسان. فَهِم بحدس الزعيم وتجربة المحارب أن التعايش مع الخرافة ضربٌ من المستحيل، وأن “الإمامة” نقيضٌ وجوديٌ لكل ما يمثله اليمن الجمهوري.

 

قد يتساءل البعض اليوم عن سر ذلك السقوط الدراماتيكي في الثالث من ديسمبر، وكيف هوت القلاع بتلك السرعة. الحقيقة التي يجب أن تُقال للتاريخ هي أن المعركة لم تكن متكافئة منذ البداية؛ لم تكن مواجهة بين جيشين، بل “انتفاضة كرامة” خاضها رجال بأسلحتهم الشخصية في مواجهة ميليشيا ابتلعت الدولة ومخازنها الثقيلة، واستخدمت “لجان الوساطة” كحصان طروادة لتطويق المربع الأمني وخنق الانتفاضة قبل أن تتنفس.

 

وفي تلك اللحظة الفاصلة، وحين أدرك صالح حجم الخذلان واختلال الموازين، اختار طريق الخلود على حسابات النجاة. قدّم روحه ثمناً لموقفٍ آمن به: أن الجمهورية أغلى من الرجال، وأن دماء القادة هي الحبر الذي تُرسم به حدود الأوطان. لذلك؛ لم يكن الرابع من ديسمبر مجرد مشهد وداع، بل ميلاداً جديداً لقضية، لا خاتمةً لحياة رجل. رحل “الزعيم” واقفاً ومعه “الأمين”، تاركَين وصيةً مكتوبةً بالدم، ترفض المساومة مع مختطفي التاريخ.

 

اليوم، تتجسد تلك الوصية واقعاً حياً في الساحل الغربي. هناك يقف الفريق أول الركن طارق صالح، يُشيد مداميك المستقبل فوق ركام الماضي. لم يكن خروجه يومها بحثاً عن نجاة فردية، بل انسحاباً تكتيكياً فرضته ضرورة استمرار المعركة، ليحول الغضب العفوي إلى عمل عسكري منظم. ورث “الجمرة” و”الفكرة” معاً، وحمل يقيناً راسخاً بأن الجمهوريين سيعودون إلى صنعاء فاتحين، لا باحثين عن مقاعد.

 

ولأن الأمر يتجاوز الحرب، يمضي طارق في مشروعٍ أوسع من البنادق والخنادق. إنها عملية ترميمٍ شاملةٍ للروح اليمنية، وإعادة تعريفٍ لمعنى “الانتفاضة”: من ذكرى للحزن، إلى عقيدةٍ قتاليةٍ ومشروع حياة. تتلاقى البنادق اليوم في خندقٍ واحد، من الساحل إلى مأرب، ومن تعز إلى الضالع وشبوة. تلتحم الجبهات، وتتوحد الرؤية، ويعود الدم اليمني ليقول كلمته في مواجهة عدو الحياة.

 

هذه المناسبة ليست مجرد ذكرى تُستعاد، بل خارطة طريقٍ تذكّرنا بأن الدول قد تمرض لكنها لا تموت، وأن الحق المحمي بإرادة الرجال لا يسقط بالتقادم.

اقرأ أيضاً