ما أشبه اليوم بالبارحة، ذلك أن الطفرة التي تشهدها شركات الذكاء الاصطناعي وأسهمها، وحالة الزخم التي تحظى بها تلك الشركات حول العالم في ظل الاهتمام المتزايد بالتقنيات الحديثة وآفاقها المستقبلية المنتظرة، تتشابه إلى حد كبير مع الزخم الذي أحدثته شركات الإنترنت في الفترة بين 1995 وحتى 2000، وما يعرف باسم "فقاعة الإنترنت" أو "فقاعة الدوت كوم" بعد ذلك.
فإلى أي مدى يتشابه ذلك الزخم -مع ضخ استثمارات واسعة- والذي قاد إلى فقاعة "دوت كوم"، مع الحالة بالنسبة للشركات الذكاء الاصطناعي وما يحظى به من زخم في الوقت الحالي؟ وما هي السيناريوهات المحتملة لشركات وأسهم الذكاء الاصطناعي وطبيعة الدروس التاريخية المستفادة؟
فقاعة الدوت كوم (Dot-com bubble) هو مصطلح يُستخدم لوصف فترة في تاريخ الاقتصاد والتكنولوجيا، شهدت خلالها أسهم الشركات التقنية والإنترنت في أميركا ارتفاعاً كبيراً في قيمتها ثم تراجعت بشكل كبير وسريع. في نهايات التسعينيات ظهرت أعداد كبيرة من المشاريع الناشئة (أغلبها كان يفتقد بصورة واضحة تصور النموذج الربحي لها، ونجحت تلك الشركات في الحصول على تمويلات وقروض من المستثمرين وحققت الملايين بسرعة). اشتهر هذا الانهيار بأنه تسبب في خسائر مالية للمستثمرين والشركات الناشئة في هذا القطاع. جاءت "فقاعة الدوت كوم" بناءً على عدد من الأسباب، من بينها (التفاؤل المفرط)، حيث كانت هناك توقعات غير واقعية حيال مستقبل الشركات التقنية والإنترنت، وكان الكثيرون يعتقدون بأن هذه الشركات ستحقق أرباحًا هائلة بشكل سريع دون أن تكون لديها أسس مالية قوية. من بين الأسباب أيضاً الزيادة الكبيرة في الاستثمارات، ذلك أنه تدفقت الأموال بشكل كبير من المستثمرين إلى الشركات التقنية والإنترنت، مما أدى إلى زيادة كبيرة في قيمة أسهمها. رغم عدم وجود أسس مالية قوية، حيث كان عديد من هذه الشركات الناشئة تعاني من عدم وجود أرباح أو نمو مستدام، ولكن كانت قيمة أسهمها ترتفع بشكل مبالغ فيه.في العام 2000، بدأت الأسواق تشهد تراجعاً حاداً في قيمة أسهم الشركات التقنية والإنترنت، وهذا التراجع استمر عدة سنوات، وخسر عديد من المستثمرين مبالغ كبيرة من المال خلال هذه الفترة.
وبعد انهيار فقاعة الدوت كوم، تعلمت الأسواق والمستثمرون دروساً هامة حول أهمية التقييم العقلاني للشركات وضرورة وجود أسس مالية قوية قبل الاستثمار فيها.
أوجه الشبه
وذكر مقال نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية، كتبه رئيس بنك أوف أميركا الدولي، أنه "من الضروري دائماً الرجوع إلى الوراء لتقييم أين نقف على القوس التاريخي للتقدم التكنولوجي"، موضحاً أنه:
مع دخولنا عصر الذكاء الاصطناعي، هناك أوجه تشابه مهمة مع طفرة الدوت كوم، التي بشرت لأول مرة بعصر الإنترنت. والآن، كما كان الحال آنذاك، تم توجيه وفرة من رأس المال نحو الإبداع التكنولوجي من قبل شركات رأس المال الاستثماري وصناديق الثروة السيادية. يعكس هذا الإفراط في الاستثمار في الشركات الناشئة الذي كان شائعاً جدا خلال عصر الدوت كوم. إن تأثير رأس المال الفائض هذا على الإبداع قد يصبح محسوساً بمرور الوقت: ببساطة، نحن نعلم أنه سوف يغير العالم، ولكننا لا نعرف ماذا بعد؟ أحد المظاهر المادية المركزية للابتكار في أواخر التسعينيات، وهو هاتف iPhone، لم يظهر إلا بعد سنوات. لا يزال الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح ملموساً للجمهور من خلال ChatGPT، يقدم فقط لمحة عن الإمكانات المستقبلية لهذه المرحلة الأخيرة من التكنولوجيا الممولة بسخاء.وبحسب المقال، فلقد مر عصر "الدوت كوم" بتخفيض كبير قبل فترة النمو التالية. فيما يبدو هذا غير مرجح هذه المرة. ومع ذلك، في حين أننا يمكن أن نكون على وشك الدخول في مرحلة "التغيير الفائق" في حياة الشركات العالمية، فإن الفوائد الكاملة قد تظل بعيدة المنال بشكل مثير مع ارتفاع أسعار الفائدة وانحسار موجة رأس المال الحر.
وفي قمة التكنولوجيا المتقدمة التي عقدها بنك أوف أميركا مؤخراً، كان هناك إجماع عام على أن هذا العقد قد يكون العقد الذي تصل فيه تكنولوجيات "الوصول إلى القمر" بسرعة وأسرع من المتوقع، مع إمكانات هائلة لتعزيز الذكاء البشري. وهذا يمكن أن يساعد الأشخاص الذين يعملون في برمجة تكنولوجيا المعلومات وصناعات الخدمات والأبحاث على أن يصبحوا أكثر فعالية في وظائفهم بدلاً من استبدالهم.
اعتقاد خاطئ
الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية، طارق الرفاعي، قال في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن ثمة اعتقاداً خاطئاً بأنه عندما نتحدث عن "فقاعة" في أي قطاع، فإن ذلك يعد أمراً سلبياً، مستشهداً بما حدث بعد "فقاعة دوت كوم"، بالنظر إلى حجم التطوير الذي شهده القطاع بعد ذلك.
وأردف قائلاً: "بعد فقاعة دوت كوم، رأينا تطويراً لهذا القطاع، حتى صار كل شيء تقريباً أون لاين، وصولاً إلى مواقع التواصل والشبكات والتطبيقات وما إلى ذلك بما يرتبط بمظاهر التقدم في قطاع الدوت كوم".
وتابع الرفاعي: "نفس الشيء بالنسبة لقطاع الذكاء الاصطناعي، بالنظر إلى التصحيحات في هذا القطاع، لا سيما وأنه قطاع جديد نسبياً وهي أمور إيجابية بالنسبة له.. يمكن أن نرى فقاعة وانخفاض كبير بالنسبة لبعض الشركات العاملة بالقطاع، ولكن هذا مؤقت، وخلال السنوات المقبلة ستعوض هذه الشركات هذا وأكثر، مع تقدم التكنولوجيا والتوسع في استخدامها من قبل الناس حول العالم بشكل أكبر".
وبالعودة إلى المقال المشار إليه، فإنه يشير إلى أنه بالنسبة للشركات الكبيرة، هناك تحدي كبير في كيفية استهلاك هذه التكنولوجيا. وبدون التمثيل الصحيح على مستوى الإدارة العليا، قد لا تعرف الشركات الأسئلة الصحيحة التي يجب طرحها، ناهيك عن الخطوات التي يجب اتخاذها.
وينقل الكاتب عن جون تشامبرز، الرئيس التنفيذي السابق لشركة سيسكو والذي أصبح الآن أحد أنجح المستثمرين على مستوى العالم في مجال التكنولوجيات الثورية، هذه الرسالة المثيرة للقلق: "يجب أن تسألوا كل شركة من شركاتكم: ما هي استراتيجية الذكاء الاصطناعي الخاصة بكم اليوم؟ أين هو ذاهب؟ كيف تغيرت؟ إذا لم يكن لديهم إجابات جيدة، فلن استثمر فيها.
وتبعاً لذلك، فـ "إذا كان لنا أن نسترشد بالتاريخ، فينبغي لنا أن نتوقع أن تبدأ تقييمات السوق في تفضيل أولئك المتقدمين بالفعل في تفكيرهم في مجال الذكاء الاصطناعي"، وبالتالي فإن "الدمج حول الشركات الأسرع في الابتكار أمر لا مفر منه".
وسوف تحتاج الحكومات إلى الحصول على رؤية واضحة لكيفية تنظيم فرص التكنولوجيا وقوتها الثورية والاستفادة منها. ويتساءل كاتب المقال: "هل سنرى المزيد من الدول ممن تحذو حذو دولة الإمارات، أول دولة تعين وزيراً مخصصاً للذكاء الاصطناعي؟".
الثورة الجديدة
من جانبه، يقول خبير أسواق المال، رئيس شركة "آي دي تي للاستشارات والنظم"، محمد سعيد، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه بالنظر إلى الاستخدامات الواسعة لأنظمة وتقنيات الذكاء الاصطناعي، لا سيما في "البيزنس"، والطفرات المتواصلة التي تحدثها تطبيقات الـ AI فإذا كانت ثمة دروس يمكن استقائها من التاريخ ومقارنة الذكاء الاصطناعي بها فإنه لا يمكن مقارنته بفقاعة الإنترنت، وإنما بـ "الثورة الصناعية"، لأن الـ AI يدخل كل يوم في مجالات مختلفة.
ويوضح أن فقاعة "الدوت كوم" مطلع القرن الحالي، تختلف عن الوضع بالنسبة للذكاء الاصطناعي، على اعتبار أن الفقاعة حدثت نتيجة ارتفاع قوي بأسهم تلك الشركات لا يقابله أثر على الاقتصاد.
لكنه لا ينفي إمكانية أن تتعرض شركات الذكاء الاصطناعي لتراجعات أو انهيارات، لكنها تراجعات طبيعية مرتبطة بموجة التراجعات بعد الصعود القوي الذي عادة ما يتبعه اتجاه هبوطي (..) علاوة على أثر رفع الفائدة -بينما من المؤكد أن الفيدرالي الأميركي سوف يبقي على معدلات الفائدة ولن يقدم على خفضها على الأقل لمدة عام قادم، وربما يرفعها حال تزايد معدلات التضخم- على الأسواق عموماً، وبما في ذلك شركات الذكاء الاصطناعي.
ومن ثم فإن أي تراجع محتمل ليس مرتبطاً بشكل مباشر بأداء الشركات نفسها، وإنما لعوامل اقتصادية وظروف الأسواق. فيما يتفق في الوقت نفسه مع ما ورد بالمقال المشار إليه بخصوص ضرورة اندماج الشركات الصغيرة العاملة في القطاع، لا سيما في ظل المنافسة الشرسة بين عمالقة التكنولوجيا وبما يعزز الاندماجات بين الشركات الصغيرة التي تقدم نماذج ناجحة، من أجل المنافسة.