■ تعد رواية «كفاحي» هي الرواية ألشهر للكاتب النرويجي كارل أوفه كناوسغارد مواليد العام 1968 جاءت الرواية في ستّة أجزاء بين عامي 2009 و2011. وترشّح عنها 3 مرّات لجائزة الإندبندنت للأدب المُترجم للإنكليزية أعوام 2013 و2014 و2015 قبل أن تُدمج الجائزة مع جائزة المان بوكر العالميّة. نشر في بدايته روايتين، هما «خارج العالم» (1998)، و«وقتٌ لكلّ شيء» (2004). كما نشر مؤخّرا رباعيّة سمّاها بأسماء فصول السنة، يجمع فيها رسائل لابنته التي لم تكن قد وُلدت ساعة الكتابة. الجزء الأول من «كفاحي»، المعنون بـ«موت في العائلة» (ترجمة الحارث النبهان عن دار التنوير)، هو أول أعماله بالعربيّة، وستلحقه أجزاء الرواية الستة تباعا، التي، باختصارٍ مخلّ، تسرد قصّة حياة الكاتب، «كفاحه» مع الحياة اليوميّة، الأشياء الصغيرة والتافهة كما يقول، أو النقيض الكلي لما كافح هتلر من أجله. أشاعت روايته هذه ضجّة كبيرة، بداية من تطابق عنوانها مع عنوان كتاب هتلر، الكتابة عن أناس وأحداث حقيقيّة، الكثير من المقارنات مع رواية بروست «البحث عن الزمن المفقود» لتشابهات خارجيّة على الأقل، فكلا الروايتين طويلتان جدّا، وكلاهما عن حياة الكاتبين الشخصيّة. أضِف مساهمة المعترضين من عائلته على جعلهم مواضيع في روايةٍ، ترسم صورة لهم لا تعجبهم، سواء أمام أنفسهم أم أمام الآخرين، في ذلك الضجيج. بإمكان كل تلك الجلبة أن تجلب الشهرة، كما حدث ويحدث مع كُتّابٍ من أمثال ميشيل ويلبيك في فرنسا أو أشرف الخمايسي في مصر. أسبابٌ خطأ، تحجب الرؤية عن الرواية، وعن إمكان قراءتها بهدوء، لذا لا بُدّ من عودةٍ إلى المتن، إلى الرواية نفسها، للبحث عن جودةٍ ما، أو عدمها. فالرواية تكرّس ذلك الإحساس بالضيق، كأنّ كناوسغارد لا يكتب عن الموت، الصمت، الثلج، القلق، بل يكتب تلك الأشياء نفسها، جوهرها. تصير الكتابة نفسها، محاولة طويلة في التجريد، لدرجة يصعب معها إيجاد لغة للحديث عنها.
جماليات الموت
يتّخذ الجزء الأوّل من الرواية الموتَ ثيمة له؛ موت والد كناوسغارد نفسه مدارا للكتابة. لكنّها ليست عن موته فقط، ثمّة أجزاء يعود فيها إلى جذور علاقته بأبيه، إلى وعيه الأوّل به: حزمه، لحظات الحنان النادرة التي صدرت عنه تجاه ابنيه، انحداره الوئيد صوب الكآبة حتّى انتهى به الأمر مدمنا على الكحول التي قتلته تاليا. كما تتحدّث الرواية عن الكتابة، علاقة الكاتب مع الكحول والنساء، علاقته بأخيه وأمّه وجدّته وأقربائه، وأخيرا ما يربو على الـ100 صفحة من التنظيف؛ تنظيف البيت الذي تُوفّي فيه والده. يبدأ كناوسغارد الجزء الأوّل من روايته «كفاحي ـ موتٌ في العائلة» بمقطع سرديّ طويل عن الموت، منفصل بقدر ما هو مرتبطٌ بأحداث الرواية. يتحدّث فيه عن الموت بصفته شبهة، نحاول درأها بعيدا عن أعيننا ما استطعنا. ويضرب أمثلة على ذلك: ثلّاجات المستشفى دائما ما تكون بعيدة عن أعين الزائرين، ودائما في الطوابق السفلى؛ إن مات أحدهم في مكانٍ عام («فتاة صغيرة ينتهي بها الحال تحت عجلات حافلة نقل» مثلا، كما يقول)، نسارع أبدا إلى تغطيته حتّى يُؤخذ بعيدا عن الأعين إلى المستشفى. لم أقف كثيرا عند المقطع حين قرأته أوّل مرّة، لكنّني أعود إليه الآن محاولا البحث عن أيّ رابطٍ يجمعه بالرواية. يقول مثلا: «ما سبب هذا الاستعجال كلّه من أجل إبعاد جثثهم عن أعين الناس؟ أهي اللياقة؟ ما الشيء الذي يمكن أن يكون لائقا أكثر من السماح لأم فتاة، أو لأبيها، برؤيتها ساعة إضافية، برؤيتها مستلقية في موقع الحادث نفسه، ظاهرة كلّها… رأسها المُحطّم وبقيّة جسدها، وشعرها الملطّخ بالدم، وسترتها المبطّنة النظيفة؟ مرئية للعالم كلّه، من غير أسرار، مثلما هي! لكن، حتى هذه الساعة الواحدة في الثلج أمرٌ لا مجال للتفكير فيه. المدينة التي لا تحفظ موتاها بعيدا عن الأنظار، التي تترك الناس حيث يموتون.. على الطرق السريعة والطرق الفرعيّة وفي الحدائق ومواقف السيارات، لا تكون مدينة، بل جحيما». المُحيّر، أنّ هذا المقطع يقول الكثير عن الرواية، أو عن «الصيغة» التي كُتبت بها على حدّ تعبير الكاتب.
صيغة الرواية وفكرة التحطيم
طوال قراءتي، كنتُ أحاول وضع يدي على طريقة/أسلوب/صيغة كُتبت بها الرواية، لكن عبثا حاولت (وثمّة احتمالٌ كبيرٌ أن يعود السبب لقلّة معرفتي، واطلاعي على الروايات)، إذ كنتُ ببحثي أتقمّص صوت كناوسغارد وهو يتساءل عن جثّة الفتاة/الصيغة التي يُسارَعُ إلى إخفائها، كلّما لاح طيفُ جسدها. المُحيّر كذلك، مقطعٌ ورد في الرواية، يفرّق فيه الكاتب بين الصيغة والأسلوب (ولا أعلم إن كان هنالك لبسٌ سببه الترجمة): «بل هو شرط الكتابة الوحيد، يجب أن يخضع كلّ شيء لصيغة الكتابة. إذا كان أيّ عنصرٍ آخر من عناصر الأدب أقوى من الصيغة، كالأسلوب أو الحبكة أو الفكرة… إذا استطاع أيٌّ من هذه العناصر أن يتحكّم بصيغة الكتابة فإنّ النتيجة بائسة. هذا ما يجعل الكُتّاب أصحاب الأسلوب القوي يكتبون كتبا ضعيفة أكثر الأحيان. إنّه أيضا ما يجعل الكتّاب أصحاب الأفكار القويّة يكتبون كتبا سيئة أغلب الأحيان. لا بدّ من تحطيم الأفكار القويّة والأسلوب القوي حتّى يتمكّن الأدب من الوجود. هذا التحطيم ما يطلق عليه اسم «الكتابة». الكتابة قائمة على التحطيم أكثر ممّا هي قائمة على الخلق». ولعلّ أحد الأشياء التي أرادها كناوسغارد من روايته هذه، هي الانطباعيّة: أن نحيّد العقل قليلا، ألّا نتّخذ موقفا واضحا إزاء ما نقرأ، وأن نتقلّب كما تتقلّب الشخصيّات والأحداث والمشاعر، وخاصّة الأخيرة، فهي متغيّرة وغير قارّة أبدا. فـ»المشاعر كالماء. إنها تتكيف دائما مع ما يحيط بها. حتّى أشدّ الأحزان لا يترك أثرا خلفه… عندما يبدو الحزن طاغيا ويستمر زمنا طويلا جدا، فإن هذا ليس لأن مشاعر الحزن قد استقرّت هناك، وليس لأنها تستطيع أن تستقرّ. إنها تقف ساكنة في مكانها مثلما يقف الماء ساكنا في بركة في الغابة».