السَّد الذي بُني حول يأجوج ومأجوج ما يزال يحبسهم عن الخروج حسب القصص الديني، لكن سداً آخر قد انهار، وحواجز قد أزيلت، وقنوات تفجرت، وسقوفاً سقطت، وخرج المحبوسون وراء السدود، وضجت ميادين المدن بالهتافات، وساحات المعارك بالصرخات، وامتلأت الصفحات والشاشات والمواقع بمزيج من الدماء والدموع، وانهارت الأنظمة، وصعد الشارع الى القصر، وخرج القصر إلى الشارع، وذاب جليد القطبين، وارتفع منسوب الماء وجاء الطوفان.
طوفان التغير المناخي والانحباس الحراري، طوفان الشوارع والاحتجاجات والحروب والنزاعات، طوفان الفضائيات التي تفجر الشاشات بالدماء والدموع والشعارات والصرخات والجماهير الغاضبة، وطوفان وسائل التواصل والصحافة الرقمية والتطبيقات التي اختفت معها الصحيفة والكتاب والسينما والفيلم الرومانسي والقصائد الحالمة والحب العذري واللغة الفصيحة، بعد أن زحفت لغة الواتس والفيس على تقاليد النحو وقواعد اللغة، وسادت لغة “رموز جدد” لم يتجاوزوا العشرين من العمر، حققوا متابعات بالملايين، ودخلت أرصدتهم الملايين، وانساق الجمهور وراء هؤلاء “المشاهير” يتابع كل حركة لهم، بعد أن تصدرت أخبارهم كبريات الصحف والقنوات.
وفي السياق، خرجت مراهقة بعبارة لا معنى لها، ثم طارت بها ركبان السناب والتيك توك، وانطلق الملايين لمتابعة آخر أخبار ملكة السناب، وما نوع قهوتها الصباحية، وأي المشروبات الغازية تفضل، وأين تناولت عشاء البارحة، وعدد سياراتها وعقاراتها، وآخر عمليات التجميل التي عملتها، ويصبح لها مدير أعمال ومشرف على الحسابات، وسط عزوف كبير للجمهور عن متابعة كبار الكتاب والشعراء وأصحاب مدارس ما قبل ثورة تكنولوجيا التواصل الأخيرة التي يبدو أنها لم تعمل فقط على كسر نفوذ السلطة الأبوية وحسب، ولكنها تريد أن تسقط السلطة السياسية والروحية والاجتماعية، والأنماط التقليدية من القيم والعادات والتقاليد، وتقلب الأوضاع في هذا المسرح السوريالي، الذي صعد إليه الجمهور واختلط بالممثلين، حتى أننا لم نعد قادرين على التمييز بين الممثل وجمهوره.
ومع اختلاط أصوات الثورات والطوائف والسياسات والحروب والفضائيات، ومع التماع الألوان والأضواء والصور المفلترة، ومع زيادة الضخ في وسائل التواصل الاجتماعي (أو لنسمها وسائل التقاطع الاجتماعي) زادت نسبة الاضطراب في المنظومات القيمية والفكرية والاجتماعية، وارتفع منسوب التفكك الأسري، وظهرت أنماط سلوك جديدة، وسمعنا عن جرائم لم تكن موجودة، وارتفعت نسبة تعاطي المخدرات، وحالات الانتحار والطلاق، وضجت الأخبار بقصة زوج قتل زوجته وأبناءه، وزوجة قطعت زوجها إرباً، وارتفعت معدلات الجريمة.
أما الأطفال فقد انطلقوا مع ثورة التكنولوجيا يلعبون ألعاباً إلكترونية مع آخرين من قارات مختلفة، وشكلوا صداقات مع أطفال من أعراق وجغرافيا وثقافات أخرى، وكسروا قواعد التربية التقليدية، وأصبح جهد الأب أو الأم في التربية لا شيء أمام سيل من محتوى تلك التلفونات الذكية التي تضع العالم كله بين يديك، والتي أضافت إلى إدمان المخدرات ما يمكن تسميته بـ”الإدمان الإلكتروني أو إدمان الآيفون” الذي نحتاج معه إلى علاج من هوس الآيباد والآيفون وبرامج لا تحصى تحويها تلك الشاشات السحرية الصغيرة التي جلبت الكثير من القلق والسهر والسباق الاستهلاكي المنفلت.
ومع ارتفاع الضجيج الصادر من قعقعة السلاح، ومع أصوات الانفجارات ومراسلي القنوات ومذيعي نشرات الأخبار، ومع ضغوط الحياة المعاصرة وقلق الإنسان على مصيره، ومع خواء الحياة الروحية وتركيز الحضارة المعاصرة على الحريات المنفلتة التي فتحت المجال أمام الغرائز والشهوات، وسنت قوانين لحماية ما تراه حرية شخصية، مع كل ذلك لا يبدو أن الإنسان المعاصر الذي قال إنه تخلص من “عقدة الإله”، لا يبدو أنه سعيد في حياته، في مجتمعات راجت بها بضاعة الانفلات من كل شيء، ضمن فلسفة ترى أن الأخلاق مجرد منتج اجتماعي تُفصّلها المجتمعات حسب مقتضيات حاجاتها المادية، وأن الأنساق السفلية في المجتمعات تعيد تشكيل الأنساق العلوية، وأن المادة تصنع القيمة، وأن الإنسان يصنع دينه ويخلق إلهه بنفسه حسب هواه، كصنيع ذلك العربي القديم الذي كان يصنع ربه من التمر، فإذا جاع أكله، ضمن فلسفة ترى أن العلم أصبح بديلاً عن الدين، أو أن العلم هو دين البشرية اليوم، وأن المنظرين والفلاسفة الإلحاديين هم الأنبياء الجدد، في سياق يتنكر للروح ويعلي من شأن كل ما له علاقة بالحياة المادية.
وفي جو كهذا يصبح السباق نحو المادة هو الأصل، ويبدأ الإنسان برحلة المليون، ثم المليار، ثم أكوام من المليارات، ثم امرأة جميلة فنساء فاتنات، وسيارة بعدها سيارات، ثم قصور وممتلكات، ثم حياة ملل يكسرها بمزيد من المليارات والنساء والقصور والملذات والإدمان، ثم الانتهاء إلى جوع لا ينتهي وخواء قاحل، وخِضَم من الغرائز التي لا تشبع، وكلما أحس ذلك الإنسان المسكين بالامتلاء عاد إلى الخواء إلى أن ينقذه من ذلك كله قراره بإنهاء حياته بالانتحار الذي يراه حلاً لمأساته التي هي مأساة الإنسان المعاصر الذي ذهب يبحث عن السعادة في إشباع غرائزه، وانتهى كومة من رماد وبقايا ذكريات بذاكرة مثقلة تسلمه إلى الجنون والانتحار.
وفي جو كهذا تروج بضائع وتنفتح دكاكين ويتكاثر أطباء نفسانيون ومنجمون ومشعوذون ورجال دين دجالون يفتحون دكاكين بيافطات مختلفة فهذا متجر “أهل البيت”، وذاك مصنع “الإمام” وتلك مجموعة شركات “النبي الأعظم”، وهذه “قناة تفسير الأحلام”، وذاك متجر “المقويات الجنسية”، وهنا عيادة “طرد الجان من الإنسان بالقرآن”، وهناك دكاكين سياسية بيافطات إسلامية، ومع زيادة المداخيل الربحية زاد انتشار تلك الدكاكين وراجت بضاعتها التي تحول الدين معها إلى “أفيون”، والتقى باعة التمائم والتعاويذ والحروز مع تجار الأفيون والكوكايين والهروين، وغرقت الأسواق والمساجد ودور العبادة بهذا المزيج الغريب الذي أنتجه صناع سياسات التخدير الذهني والروحي والاجتماعي، فيما لا يزال الجمهور الذي تتجاذبه التوجهات المختلفة يبحث عن الخروج من شبكات العنكبوت بالمزيد من تعاطي الضجيج وإدمان الفراغ ، واستمرار هذا السباق المدمر نحو المتعة واللذة وقتل الوقت، ومتابعة “المشاهير” الذين يتكاثرون مثل مطاعم الوجبات السريعة التي تقدم وجبات شهية غير صحية تكدست بها الأموال وارتفعت بها معدلات التردد على عيادات الأطباء.
ومع ذلك، يظل في وسط كل هذا الضجيج المرعب والقلق الوجودي والمادي والشتات الذهني والنفسي، يظل لدينا ذلك الروائي الكبير الذي نخرج بروايته عن كل هذا الغثاء، والشاعر المحلق الذي نسافر معه إلى عالم ليس فيه شاشة آيفون، والمطرب الذي يكمن السحر في منحنيات صوته، والرسام الذي يضغط الكون في لوحة، والمفكر الذي نفيق مع طرحه من ذلك “الأفيون التكنولوجي”، والعالم الذي ينزوي في مختبره بحثاً عن علاج لمرض جديد، والفيلسوف الذي ينقلنا إلى الماوراء، وقبل ذلك وبعده، لا تزال تلك الآية العظيمة تدعونا إلى شاطئ الأمان: “يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخل في عبادي وادخلي جنتي”، حيث السلام الروحي الذي نبحث عنه بعيداً، وهو في متناول القلب.