هَل يَصْنَعُ الفَراغُ في شَمالِ اليَمَنِ دَوْلَةً في الجَنوب؟
بقلم :عبدالملك المخلافي
أَثارَ اسْتيلاءُ المَجْلِسِ الانْتِقاليِّ الجَنوبيِّ على المِنْطَقَةِ العَسْكَرِيَّةِ الأولى في وادي حَضْرَمَوْتَ، وَعَاصِمَتِهِ سيئون، وَطَرْدُ آخِرِ الوَحَداتِ العَسْكَرِيَّةِ التّابِعَةِ لِلدَّوْلَةِ — بِما فيها وَحَداتٌ تَضُمُّ ضُبّاطًا وَجُنودًا جَنوبِيّينَ — مَوْجَةً واسِعَةً مِنَ القَلَقِ في اليَمَنِ وَخَارِجِه. فَقَدْ رَأى الكَثيرُونَ في هَذا التَّحَوُّلِ مُؤَشِّرًا على اكْتِمالِ سَيْطَرَةِ الانْتِقاليِّ على عُمومِ الجَنوبِ، بِما في ذَلِكَ حَضْرَمَوْتُ التي بَقِيَتْ لِسَنَواتٍ بَعيدَةً عَنِ المُواجَهَةِ المُباشِرَة. وَمَعَ تَزايُدِ القَلَقِ الشَّعْبيِّ، ارْتَفَعَتِ المَخاوِفُ العَرَبِيَّةُ والدَّوْلِيَّةُ مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ هَذا التَّغْييرُ إلى فَتْحِ مَسارٍ نَحْوَ انْفِصالِ الجَنوبِ وَتَمَزُّقِ اليَمَنِ، خُصوصًا في ظِلِّ الانْهِيارِ الذي ضَرَبَ الدَّوْلَةَ في الشَّمالِ بَعْدَ الانْقِلابِ الحُوثِيّ.
الانْقِلابُ الذي نَفَّذَتْهُ جَماعَةُ الحوثيِّ وَسَيْطَرَتُها على صَنْعاءَ وَمُعْظَمِ المُحافَظاتِ الشَّمالِيَّةِ لَمْ يَمْنَعْ فَقَطِ الدَّوْلَةَ مِنْ مُمارَسَةِ سُلُطاتِها، بَل جَعَلَ الحُكومَةَ الشَّرْعِيَّةَ عاجِزَةً عَنْ إِدارَةِ شُؤونِ البِلادِ مِنْ مَرْكَزِها الطَّبيعِيّ. والأَخْطَرُ أَنَّ الحوثِيّينَ لا يُمَثِّلونَ حَرَكَةً مَحَلِّيَّةً مُتَمَرِّدَةً فَحَسْبُ، بَل ذِراعًا سِياسِيَّةً وَعَسْكَرِيَّةً لإيرانَ، ما جَعَلَ الشَّمالَ ساحَةَ نُفوذٍ خارِجيٍّ وَزادَ مَخاوِفَ الدّاخِلِ والخارِجِ مِنْ تَفَكُّكِ الدَّوْلَةِ اليَمَنِيَّةِ واسْتِغْلالِ هَذا التَّفَكُّكِ لِخِدْمَةِ مَشاريعَ إِقْلِيمِيَّةٍ أَوْسَع. وَفي ظِلِّ هَذا الواقِعِ، يُحاوِلُ المَجْلِسُ الانْتِقالِيُّ تَقْديمَ سَيْطَرَتِهِ العَسْكَرِيَّةِ كَبَديلٍ جاهِزٍ لِلدَّوْلَةِ وَكَمُقَدِّمَةٍ "لاسْتِعادَةِ" الجَنوبِ دَوْلَتَهُ السّابِقَةَ قَبْلَ 1990.
غَيْرَ أَنَّ الفَراغَ، مَهْما كانَ عَميقًا، لا يَصْنَعُ دَوْلَةً جَديدَةً مِنْ تِلقاءِ نَفْسِه. فَالقانونُ الدَّوْلِيُّ لا يُجيزُ لِلأَقاليمِ الانْفِصالَ لِمُجَرَّدِ أَنَّ العاصِمَةَ سَقَطَتْ أَوْ أَنَّ السُّلطَةَ المَرْكَزِيَّةَ ضَعُفَت. الدُّوَلُ لا تَتَفَكَّكُ بِهَذِهِ السُّهولَةِ، وَوَحْدَةُ أَراضيها لَيْسَتْ خيارًا سِياسِيًّا يُمْكِنُ تَغْييرُهُ بِقَرارٍ أُحادِيّ. وَلِهَذا يُدْرِكُ المُجْتَمَعُ الدَّوْلِيُّ أَنَّ انْقِسامَ اليَمَنِ لَنْ يُؤَدِّيَ إِلّا إلى المَزيدِ مِنَ الفَوْضى، وأَنَّ تَشْكيلَ كِيانٍ جَنوبيٍّ مُنْفَصِلٍ في وَقْتٍ تَتَحَكَّمُ فيهِ جَماعَةٌ مُرْتَبِطَةٌ بِإيرانَ بحُدودِهِ المُحْتَمَلَةِ، سَيُضاعِفُ الأَخْطارَ بَدَلَ أَنْ يُقَلِّلَها. وَلِهَذا بَقِيَ المَوْقِفُ الدَّوْلِيُّ ثابِتًا: اليَمَنُ دَوْلَةٌ واحِدَةٌ، وأَيُّ تَغْييرٍ في بُنْيَتِهِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نِتاجَ اتِّفاقٍ سِيَاسيٍّ شامِلٍ وَمُتَوافِقٍ مَعَ القانونِ الدَّوْليّ.
أَمّا الحُجَّةُ التي يُقَدِّمُها "الانْتِقالِيُّ" بِأَنَّ الجَنوبَ كانَ دَوْلَةً مُسْتَقِلَّةً حَتّى عامِ 1990، فَإِنَّها - على الرَّغْمِ مِنْ قُوَّتِها العاطِفيَّةِ - لا تَسْتَنِدُ إلى أَساسٍ قانونيٍّ يَسْمَحُ بِالعَوْدَةِ إلى ما قَبْلَ الوَحْدَة. فَبِمُجَرَّدِ تَوْقيعِ اتِّفاقِ الوَحْدَةِ اخْتَفَتِ الشَّخْصِيَّتانِ القانونِيَّتانِ لِلدَّوْلَتَيْنِ السّابِقَتَيْنِ، وَنَشَأَتْ دَوْلَةٌ جَديدَةٌ مُعْتَرَفٌ بِها دَوْلِيّا. وَهَذا يَعْني أَنَّ العَوْدَةَ إلى ما قَبْلَ الوَحْدَةِ لا يُمْكِنُ أَنْ تَتِمَّ بِقَرارٍ مُنْفَرِدٍ، بَل فَقَطْ عَبْرَ اتِّفاقٍ بَيْنَ الشَّريكَيْنِ واعْتِرافٍ دَوْلِيّ. وَتَجارِبُ العالَمِ توضِحُ ذَلِكَ: كُرْدِسْتانُ العِراقِ - على الرَّغْمِ مِنْ مُؤَسَّساتِها القَوِيَّةِ - لَمْ تَحْصُلْ على اعْتِرافٍ واحِدٍ بَعْدَ اسْتِفْتائِها. كَتالونْيا أَعْلَنَتِ الانْفِصالَ لِساعاتٍ ثُمَّ تَراجَعَت. وَ"صومالي لانْد"، التي كانَتْ دَوْلَةً مُسْتَقِلَّةً عامَ 1960 قَبْلَ أَنْ تَتَّحِدَ مَعَ الصّومالِ الإيطاليِّ لِتَشْكيلِ جُمْهورِيَّةِ الصّومالِ، لَمْ تَحْصُلْ على أَيِّ اعْتِرافٍ دَوْليٍّ على الرَّغْمِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثَةِ عُقودٍ على إِعْلانِ انْفِصالِها مُجَدَّدا. وَكُلُّ هَذِهِ الأَمْثِلَةِ تُؤَكِّدُ أَنَّ إِعْلانَ الدَّوْلَةِ لا يَعْنِي قِيامَها، وأَنَّ الشَّرْعِيَّةَ الدَّوْلِيَّةَ شَرْطٌ لا يُمْكِنُ تَجاوُزُه.
وَما يَزيدُ المَشْهَدَ تَعْقيدًا أَنَّ الجَنوبَ نَفْسَهُ لَيْسَ مُتَّفِقًا على صيغَةِ "الدَّوْلَةِ" التي يَطْرَحُها الانْتِقالِيّ. فَحَضْرَمَوْتُ يتبع 2